أحمد محفوظ – يرصد
كيف توقفت النيران فى ليبيا؟ السيسى ينتصر فى معركة الصحراء
من اللحظة الأولى ومصر تنادى بالحل السياسى فى ليبيا، وأن يكون هذا الحل ليبيا _ ليبيا، لا مكان فيه للتدخلات الخارجية أيا كان نوعها أو حجمها، لأن التدخل الخارجى معناه انتقاص استقلال ليبيا وسيادتها وهو ما لا يرضاه أحد ولا يقر به.
قبل أسبوع كانت الأوضاع فى ليبيا تنذر بكوارث، فى ظل احتمالات مفتوحة لم تستبعد حرباً إقليمية، يشعلها تصادم إرادات دول مهمة، وصراعات مصالح، وتدفق حشود من الميليشيات، وتراجع فرص الحل السياسى، وهو أمر كان سيفاقم معاناة الليبيين، ويكرس فشل الدولة، ويحولها إلى بؤرة لقوى الإرهاب، بما يلقى بظلال قاتمة على مستقبل الأمن والاستقرار فى المنطقة.
وقد حدث تطور تاريخى لافت، قد يكون مقدمة لحل سياسى يبعد أشباح الفوضى والإرهاب والحرب الشاملة، ويمهد لحل سلمى نعرف أنه صعب وعرضة لانتكاسات، لكن نعرف أيضاً أنه البديل الأقل تكلفة والأكثر تجاوباً مع مصلحة ليبيا وجيرانها القريبين والبعيدين.
لقد صدرت ثلاثة بيانات مهمة عن البعثة الأممية المعنية بإيجاد تسوية سياسية ملائمة ومتوازنة فى هذا البلد الجار، وعن المجلس الرئاسى المهيمن فى الغرب ومعه حكومة الوفاق برئاسة السراج، وعن مجلس النواب المنتخب فى الشرق والداعم لقوات الجيش الوطنى الليبى برئاسة حفتر، وكلها بيانات تؤكد على بدء تفعيل مسار سياسى لتسوية الصراع الليبى بعد وقف إطلاق النار بين الطرفين المتحاربين والقوى الداعمة لهما.
يُعد الاتفاق على وقف إطلاق النار فى ليبيا راهناً اختراقاً مهماً وإيجابياً، إذ كانت نذر الحرب تلوح فى الأفق على وشك الانفجار، إثر الخلاف على هوية المسيطر على خط سرت- الجفرة الاستراتيجى، الواقع فى منتصف الشريط الساحلى الليبى المطل على البحر المتوسط، قرب مرافئ النفط الرئيسية فى البلاد، التى تشكل جزءاً مهماً من مقدرات ثروتها النفطية.
لم تتوقف بيانات الترحيب بالاتفاق عن الصدور منذ الإعلان عن إيقاف إطلاق النيران بين القوى المتحاربة، فى ظل التعبئة والحشد والتربص، وفى ظل الإصرار التركى على مواصلة القتال للهيمنة على سرت عبر دعم قوات «الوفاق» وميليشياتها، وقد أعلنت البعثة الأممية ترحيبها بالخطوة، وتلتها دول مؤثرة عديدة، بعدما دعمت مصر والجامعة العربية هذا التطور الإيجابى، باعتباره «خطوة مهمة على طريق تحقيق التسوية السياسية».
لكن سؤالاً يبرز هنا على خلفية هذا الإعلان المفاجئ: كيف تم الوصول إلى توافق على وقف إطلاق النيران والاتجاه إلى عملية سياسية، رغم ما بدا من إصرار تركى على التصعيد، واستمرار «الوفاق» فى الحشد والتعبئة والاستعداد للقتال؟
يمكن الإجابة بوضوح بأن الموقف المصرى كان العامل الأساسى فى هذا التغير، ففى شهر يونيو الفائت أرست مصر محور سرت- الجفرة خطاً أحمر، وأكدت أنها لن تقبل بتجاوزه، مؤكدة قدرتها وعزمها على حمايته، قبل أن تعلن فى شهر يوليو التالى له أن إرساءها لهذا الخط إنما يمثل دعوة للسلام وليس دعوة للقتال.
لم تكتف مصر بالطبع بالإعلان السياسى عن عزمها التدخل فى ليبيا، بعد استيفاء استحقاقات مثل هذا التدخل السياسية والقانونية، لكنها برهنت أيضاً على هذه الإرادة من خلال عمليات لوجستية على الأرض، لتصل الرسالة واضحة إلى الأطراف المعنية، ولتبدأ فى التصرف وفق ما فرضته من معطيات جديدة.
سيأتى المحللون لاحقاً ليشرحوا لنا كيف تغير مسار الصراع فى ليبيا من احتمالات المواجهة المفتوحة المكلفة (التى لا يمكن استبعاد إمكانية اللجوء إليها) إلى مسار التسوية السياسية، الذى نعرف أنه سيكون مرهقاً، وسينطوى على تكاليف، لكنها لن تكون بمثل فداحة التحاور بالنيران.
وسيجد هؤلاء المحللون أسباباً عديدة يمكن إيرادها فى هذا الصدد، لكن ثمة سبباً جوهرياً سيصعب جداً تجاهله، وهو أن مصر استطاعت أن تعبر عن موقفها بوضوح وفى الوقت المناسب، وأنها لوحت باستخدام قوتها الصلبة، وهيأت المسرح لهذا الاستخدام، وهى سياسة سنحتاجها فى ملفات أخرى لا تقل أهمية.
عندما نراجع البيانات الرسمية التى أصدرتها وزارة الخارجية المصرية، والخطاب الرسمى للقيادة المصرية سنجد أن موقفنا كان واضحا من البداية، فمصر سعت من البداية للحفاظ على الدولة الليبية ومؤسساتها لأن ذلك هو الطريق الوحيد لأمن واستقرار الليبيين والحفاظ على ثرواتهم ومقدراتهم، كما سعت مصر أيضا للوقوف وبصلابة أمام أى محاولة لتصنيع بؤرة إرهابية تتجمع فيها الميليشيات الإرهابية التى تدفع بها دول معادية إلى حدودنا الغربية.
من اللحظة الأولى ومصر تنادى بالحل السياسى فى ليبيا، وأن يكون هذا الحل ليبيا _ ليبيا، لا مكان فيه للتدخلات الخارجية أيا كان نوعها أو حجمها، لأن التدخل الخارجى معناه انتقاص استقلال ليبيا وسيادتها وهو ما لا يرضاه أحد ولا يقر به.
ومن اللحظة الأولى ومصر تعلن أنها ليست طامعة فى شيء، ولا تسعى إلى الحصول على شيء ليس من حقها، وهذا ملمح من ملامح السياسة المصرية فى عهدها الجديد، وهو ما يظهر للجميع، فلا شيء تخفيه مصر. بل تتعامل بشفافية فى كل قضاياها الداخلية والخارجية على السواء.
لم تستمع القوى الإقليمية لكلمة مصر وسعت فى غيها، معتقدة أنها يمكن أن تنال ما تريده أو تحصل على ما ليس لها بحق، وأغرى هذه القوى فيما يبدو صمت مصر وهدوءها فى رد الفعل، دون أن تعرف أن هناك خطوات محسوبة بدقة، وهى الخطوات التى تم الإعلان عنها فى وقتها تماما.
أدارت مصر الملف من خلال دبلوماسيتها الحكيمة باحترافية شديدة، وهى الاحترافية التى جعلتها تنتظر حتى تقدم مجلس النواب الليبى بطلب إلى القيادة المصرية لتدخل مصر فى مواجهة أى اعتداء خارجى على أراضى ليبيا، ثم جاء ممثلو القبائل الليبية ليؤكدوا على ما طلبه مجلس النواب، ويومها قال لهم الرئيس عبد الفتاح السيسى إن مصر لن تدخل ليبيا إلا بطلب الليبيين ولن تخرج منها إلا بطلبهم، وهى الصيغة التى أكدت أن مصر تدير كل ملفاتها بشرف وأمانة.
كان لابد أن ينظر مجلس النواب المصرى فى طلب مجلس النواب الليبى، وفى جلسة تاريخية وافق مجلس النواب بالإجماع على الطلب انطلاقا من أن الاستجابة للطلب الليبى فى النهاية تمثل حماية للأمن القومى المصرى، فليبيا فى النهاية تمثل عمق الأمن القومى المصرى.
قبل هذه الخطوات كانت هناك خطوات أخرى مهمة ومؤثرة، فعندما أعلن الرئيس أن سرت والجفرة خط أحمر كان يعنى تماما ما يقول، وبعدها توقفت خطوات الميليشيات التى كانت تعتدى على أرض ليبيا، لأن من يديرونهم أدركوا تماما أن التهديد المصرى ليس مجرد كلام فى الهواء، ولكنه موقف ثابت لا يمكن التراجع عنه، وأن مصر لا تهدد إلا إذا كانت لديها القدرة والقوة لتنفيذ ما تعلنه.
بعد تحديد الخط الأحمر بسرت والجفرة أعلنت القيادة المصرية بيان القاهرة الذى أكدت مصر من خلاله ثوابتها تجاه القضية الليبية، وهو البيان الذى حظى بتقدير المجتمع الدولى كله، حيث كان فيه تأكيد واضح على حق الليبيين فى أرضهم، وأن الدخلاء ليس أمامهم إلا أن يرحلوا، لأنهم ليس لهم أى حق فيها.
كان طبيعيا أن تأتى بعد ذلك الخطوة المهمة التى اتفق عليها مجلس النواب الليبى برئاسة المستشار عقيلة صالح والمجلس الرئاسى لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، حيث تم الإعلان عن وقف إطلاق النار ووقف كل التحركات العسكرية فى ليبيا.
هذه الخطوة التى اعتبرها الجميع مفاجأة من شأنها إفساح الطريق أمام الحل السياسى الذى تحدثت عنه مصر منذ البداية، وهو حل يقضى بأن يجلس الليبيون على مائدة واحدة للتشاور والحوار للوصول إلى صيغة يكون من شأنها ضمان الاستقرار والأمن لكل الليبيين.
بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار سيكون على الليبيين أن يذهبوا إلى مائدة حوار، وهو الحوار الذى سيسفر عن تأسيس مجلس رئاسى جديد وحكومة وطنية ليبية، للعمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية يكون من شأنها أن تضمن للمؤسسات الليبية العمل لمصلحة الليبيين جميعا.
يمكننا أن نرصد رد الفعل الدولى بعد الإعلانات الليبية المتتابعة من مجلس النواب والمجلس الرئاسى، فردود الفعل جميعها امتدحت الخطوة الليبية، لكنها فى الوقت نفسه أشارت إلى الدور المصرى فى القضية فى حالة من التأكيد على إدراك العالم كله لما قدمته مصر وما فعلته فى الملف عبر دبلوماسيتها الهادئة.
كان لافتا ما جاء فى الرسالة التى أرسل بها رئيس مجلس النواب الليبى إلى الرئيس عبد الفتاح السيسى يشكره فيها على ما قدمه من دعم ومساندة للقضية الليبية، وكان لافتا أكثر التغريدة التى كتبها رئيس المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق فايز السراج، والتى وجه فيها الشكر أيضا للرئيس السيسى فى إشارة إلى اعتراف واضح بأهمية وقيمة وقدر الدور المصرى فيما وصل إليه الليبيون من توافق حول مستقبل ليبيا والليبيين.
كل ما جرى يشير إلى أن مصر هى كلمة السر الوحيدة فى الإقليم، وهى كلمة لها حكمتها ووجاهتها وثقلها وحجمها، وهو ما نراه فيما جرى، فرغم أن كثيرا من القوى الإقليمية حاولت أن تلعب أدوارا تحقق من خلالها مكاسب لها على حساب الليبيين، فإن هذه القوى فى اللحظة الحاسمة تراجعت والتزمت بالخط الأحمر الذى وضعته مصر، وكان هذا طبيعيا، لأن هذه القوى عرفت أن كلام مصر لم يكن للاستهلاك السياسى، بل هو كلام جاد جدا.
ما جرى فى ليبيا يجعلنا نطمئن على كل الملفات التى لا تزال معلقة، وعلى رأسها ملف سد النهضة الذى طالت المفاوضات فيه، ويعتقد كثيرون أن مصر أضيرت فى هذا الملف، وأن ما تفعله إثيوبيا تعبير عن خروجها عن الخط المرسوم من القيادة المصرية، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فالدولة المصرية تحسم ملفاتها بحسم وليس علينا إلا أن ننتظر… فلن يحدث إلا ما تريده مصر وتخطط له، الفارق أننا نعمل بهدوء بينما لا يعرف الآخرون ذلك.